« على الجرجار » أغنية أطلقت وقعها المقصلة و حفظتها الذاكرة الشعبية

اضربني يا جلادي ولا تحرمني حقي في الصراخ بل اقتلني يا جلادي لكن وافني حقي في الدفن شكرا يا جلادي كم أنت متفهّم…

حين تنال وطأة الإستعمار من الشعوب المضطهدة يُسحب الحق في الحياة من دائرة البداهة الإنسانية لكن الغريب في صفحات التاريخ أن تنتفض الشعوب طلبا لحقها في الدفن و لأحقيتها في الحفاظ على رفات ذويها

 مشاهد تُعجز الخيال الدرامي عاشها التونسيون خلال و اثر احداث الجلاز التي اندلعت في السابع من نوفمبر 1911، حينما اراد المستعمر الاستيلاء على مقبرة الجلاز و تحويل صبغتها العقارية من وقف الى ملكية خاصة

صور رسمتها حروف المؤرخين، لكن الزاوية الأكثر حدة وشعبية  تكفّلت الأغنية التونسية بحفظها من النسيان و ترسيخها في الذاكرة الجمعيّة

ما أفجع أن يبلغ للأم خبر وفاة ابنها لكن الأفضع على الإطلاق هو أن تشهد الأم بنفسها قطع رأس ابنها الشاب في ساحة عامة

هذا ما شهده التونسيون فعلا يوم 26 أكتوبر 1912 حين أوقفت مقصلة المستعمر عداد سنين البطل المقاوم المنوبي الخضراوي المكنى ب »الجرجار » في سنته الحادية و الثلاثين جراء قيادته للإحتجاجات خلال احداث الجلاز

مشهد زعزع كيان أمه الواقفة على شفى الجنون بين الجموع في ساحة باب سعدون، لتهيم

في أنهج وزقاق العاصمة مرددة مرثية تناقلتها الألسن و حفظتها الذاكرة الشعبية مطلعها ؛ « بره وإيجا ما ترد أخبار على الجرجار يا عالم الأسرار صبري لله

 قبل أن تغنيها الفنانة ليليا الدهماني سنة 1973 بلحن شجي مفعم بالأحاسيس و صوتها العذب المعمّد بالحزن و اللوعة

 « الجرجار » أغنية تبوأت مكانها في المدونة الموسيقية ويرددها الكثير من التونسيين اليوم كما أنها محل استعادة من قبل عديد الفنانين من أنماط مختلفة ليظل المناضل التونسي  « المنوبي الخضراوي »  حيا في تفاصيلها

 فلا يمكن الحديث عن ملحمة الجلاز و بطولة  « الجرجار » دون الحديث عن دور الأغنية التونسية في التأريخ لمراحل من المعاناة أفضع من أن تسقط من ثقوب الذاكرة

محمد الدغباجي: أسد ثائر خُلد اسمه في عرين الملاحم و الأغاني

لم يأفل اسم محمد الدغباجي من ذاكرة التونسيين رغم مرور قرن على إعدامه من قبل الاحتلال الفرنسي (1 مارس 1924)، فهذا الرجل الثائر ضدّ المستعمر خلّد اسمه وأثره في قصائد الشعراء وأصوات المغنّين أشهرهم الفنان الشعبي الفقيد اسماعيل الحطاب في أغنية « الخمسة إلّي لحقو بالجرة ». ولد المناضل الشهيد محمد الدغباجي بحامة قابس سنة 1885 واستشهد فيها رميا بالرصاص يوم 1 مارس من سنة 1924 تنفيذا لحكم الإعدام الصادر فيه من قبل سلطات الاحتلال الفرنسي التي زعزعت بطولته ترسانتها في أكثر من ملحمة شُيٌد الدغباجي في الذاكرة الشعبية صرحا قوامه المروءة والشجاعة والنضال من أجل الوطن

وهذه السّمات جعلت منه أنموذجا متفرّدا واستثنائيا في نهج المقاومة الوطنية للاستعمار الفرنسي بالبلاد التونسية، ليثبّت سيرته الباحثون والمؤرخون من المقاومين الأوائل الذين أرسوا أسس المقاومة في بعدها المغاربي، فلم يكن للأسد الثائر ان يلتزم بحدود رسمها نفوذ الاستعمار، ليحفّز بفلسفته العفوية الرافضة للخضوع تضامن حركات المقاومة المغاربيّة أين تفشى الظلم و متى تفاقم الإضطهاد. وقد نجح الدغباجي فعلا في إشعال معارك عديدة في الجنوب التونسي أهمها معركة « خنقة عيشة » حيث انتصر فيها الدغباجي ورفاقه وغنموا كميات كبيرة من الأسلحة وأربعة من الخيل و »المحفورة » وواقعة « المغذية » من ولاية صفاقس، والتي واجه فيها وهو في قلة من رفاقه قوات المستعمر التي كانت تعد حوالي 300 نفرا وكذلك واقعة « الجلبانية » حيث تبادل في أثنائها الطرفان إطلاق النار، وأسفرت عن سقوط خمسة قتلى من الجانب الفرنسي وفرّ الخمسة الباقون، أمّا جماعة الدغباجي فلم يصب أحد منهم بأذى. لم يصبر المستعمر على محاكمة الدغباجي فكان له ذلك غيابيا يوم 27 أفريل 1921 عندما قضت محكمة الاحتلال الجائرة بإعدامه مع جمع من رفاقه، الذين التحقوا بالتراب الليبي، كما لم يتأخر المستعمر الإيطالي في القبض عليهم وتسليمهم للسلطات الفرنسية. وفي صباح يوم 1 مارس 1924 اقتيد إلى ساحة السّوق بمدينة الحامة وأُعدم رميا بالرصاص ليسقط الجسد و يعلو الاسم خالدا بين شهداء المقاومة التونسية الذين ألحقوا بالمستعمر الفرنسي عديد الهزائم و مهدوا لانجلاء ظلمة ليله الحالكة. وقد تنافس الشعراء في رثاء الدغباجي وذكر مناقبه وتعداد خصاله وتصوير ملاحمه وبطولاته، فقد رثاه شعراء عصره أمثال الشاعر بلقاسم كانون في قصيدة بعنوان « الدغباجي ماذا واجعني »، وبلقاسم الختال في قصيدة حملت عنوان « عليه فضوا الجلسات » ومبارك بن عمر الزيتوني في قصيدة بعنوان « تمم فرحه دام » وعمر بن العربي المرزوقي في قصيدته « بعد الدغباجي وخليفة »، لتحفظ الأغنية التونسية بطولات الدغباجي وصحبه المقاومين في ثنايا مدونتها و تضمن تداولها على الألسن جيلا بعد جيل